إنك إذا أعطيت فإنما تعطي القليل من ثروتك، ولكن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءا من ذاتك، لأنه أي شيء هي ثروتك؟ أليست مادة فانية تخزنها في خزائنك، وتماقط عليها جهدك خوفا من أن تحتاج إليها غدا.
والغد! ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ الفطنة، الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة، وهو يتبع الحجاج في المدينة المقدسة.
أو ليس الخوف من الحاجة، هو الحاجة بعينها؟ أم ليس الظمأ الشديد للماء، عندما تكون بئر الظامي ملآنة، هو العطش الذي لا تروى غلته؟!
من الناس من يعطون قليلا من الكثير الذي عندهم، وهم يعطونه لأجل الشهرة، ورغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم، ومنهم من يملون قليلا ويعطونه بأسره!
ومنهم المؤمنون بالحياة، ولسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبدا، ومن الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة لهم، ومنهم من يعطون بألم، وألمهم معمودية لهم!
وهنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى للألم في عطائهم، ولا يتطلبون فرحا، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبير العطر في ذلك الوادي!
بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض!
جميل أن تعطي من يسألك ماهو في حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته به، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء، يكون له فرح بسعيه إلى من يتقبل عطاياه، والاهتداء إليه أعظم مما بالعطاء نفسه!
وهل في ثروتك شيء تقدر أن تبقيه لنفسك، فإن كل ما تملكه اليوم، سيتفرق ولا شك يوما ما، لذلك اعط منه الآن، ليكون فضل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك!
وقد طالما سمعتك تقول متبجحا :" إنني أحب أن أعطي، ولكن المستحقين فقط!".
فهل نسيت يا صاح، أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك، ومثله القطعان في مراعيك؟
فهي تعطي لكي تحيا، لأنها إذا لم تعطه عرضت حياتها للتهلكة.
الحق أقول لك : إن الرجل الذي استحق أن يتقبل عطية الحياة، ويتمتع بأيامه ولياليه، هو مستحق لكل شيء منك .
والذي قد استحق أن يشرب من أوقيانوس الحياة، يستحق أن يملأ كأسه من جدولك الصغير ... لأنه أي صحراء أعظم من الصحراء ذات الجرأة والجسارة على قبول العطية بما فيها من الفضل والمنة؟
وأنت من أنت! حتى أن الناس يجب أن يمزقوا صدورهم، ويحسروا القناع عن شهامتهم وعزة نفوسهم، لكي ترى جدارتهم لعطائك عادية، وأنفسهم مجردة عن الحياة ؟
فانظر أولا هل أن جدير بأن تكون معطاء وآلة العطاء!
لأن الحياة هي التي تعطي للحياة، في حين أنك وأنت الفخور بأن قد صدر العطاء منك. لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائك.
أما أنتم الذين يتناولون العطاء والإحسان، وكلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيديكم نيرا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم.
بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه، لأنكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين، فإنكم بذلك تظهرون الشك والريبة في أريحية المحسن، الأرض السخية أمه، والرب الكريم أبوه!