في العاشر من آيار سنة 1900 شهدت إحدى القرى اللبنانية زواج عزيز الكرباج من جميلة البشتاوي. وعزيز وحيد أبيه وأمه,كان أجمل شاب في البلدة والجوار سافر الى أميركا وعمل بالتجارة ,فنجح في عمل ثروة كبيرة في مدة قصيرة.فعاد إلى لبنان ليشيد أحسن دار في بلدته ويفتح تجارة جديدة,وهو لم يتخط بعد الخامسة والعشرين من عمره.أما جميلة فكان لها الجمال الساحر والصفات الحسنة إضافة للعلم والثروة:فهي أيضا وحيدة أبويها,ورثت عن أبيها أرزاقاًواسعة وصندوقاً من المال...بعد الزواج عاشت جميلة حياة هانئة بين حميها وحماتها وعزيز شريك حياتها. وشكلت محور حياتهم اليومية ومصدر أفراحهم وأتراحهم .وكان كل يوم في حياتهم الزوجية أشبه بعرس أو ربيع دائم.وكان سكان الجوار المنشغلون بالعروسينيدعون لهم"بعريس"يكمل فرحتهم.فأحست جميلة أن زوجها يعتبر "العريس" مكملأً للسعادة ومضاعفاً للحب.وإن سعادته بحبها ليست كاملة ,وحبه لها لم يبلغ حده,وتساءلت ماذا يحدث لو بخل الله عليها "بعريس"؟؟
وكانت أم عزيز تدلل كنتها,وتمنعها من أداء أبسط الأعمال المنزلية لتنصرف للمطالعة والتأنق في اللباس والزيارات. وبدأت جميلة تحس بالفراغ يدب في حياتها,وتشعر بالبرود من زوجها في علاقته معها.وبمرور سنتين على زواجها أحست أن هاوية فرقت بينها وبين زوجها.فماذا طرأ على عزيز؟ فهي لا تزال تحبه؟ظل هذا السؤال بدون جواب,يعذبها حتى سمعت حماتها تقول لعزيز:يا بني إالى متى الصبر....أهكذا ينقطع نسلنا ونحن مكتوفي الأيدي؟؟ففهمت جميلة أن السبيل في تجديد الحب إلى قلب عزيز هي في ولادة البنين..وقررت أم عزيز اصطحاب كنتها إلى بيروت أولاً .فزحلة فالشام من بعد عرضها على أشهر الأطباء وداواة عقمها.كانت جميلة تذوب كالشمعة وتحس زوجها أكثر نشافا معها وعصبية.وأحست أن العقر فادحة كبيرة في أعين الجميع حتى أمها,فلمن تشكو؟؟ وتحول البيت الزوجي الهانىء إلى مقبرة لا يجسر فيه أحد أن ينبس ببنت شفة.وصار أبو عزيز وأم عزيز ينظران إلى كنتهما كأنها سبب تعاسة وحيدهما,لذلك أبغضاها وتمنيا لها الموت.وأذعنت جميلة لطلب حماتها مرة أخرى وسارت معها كما يقول الكاتب ميخائيل سنة 1910 لزيارة أحد الأديرة اللبنانية.وحملت جميلة في تلك السنة,مما أحدث انقلابا في البيت والبلدة والجوار.فعاد عزيز ينادي زوجته "قرقوري"(وهو اسم دلع في البلدات اللبنانية)ويحمل إليها كل مساء أطيب المآكل وأثمن الهدايا.لكن جميلة صارت تحس قبلات زوجها سماً يتفشى في جسدها,وأدركت أنها غريبة في بيت زوجها بل في العالم.فسئمت الحياة وسئمت العالم.
وفي اليوم العاشر من شهر آيار 1911 عاد عزز إلى بيته.وخلافاً للعادة لم يجد زوجته في انتظاره عند الدرج, فدخل غرفتها ليجد ورقة مكتوب عليها:"تجدني تحت السنديانة.جميلة." فرمى الورقة وطار إلى السنديانة,فوجد جميلة مضطجعة على الأرض بثوب العرس وناداها فلم تجب.فأخذ رأسها بين يديه وتراجع على الفور إلى الوراء وصرخ مذعوراً إذ وجد جميلة جثة هامدة وبالقرب منها ورقة قرأ فيها:
"إلى قرقوري الحبيب الذي لا يثمن"
"في مثل هذا اليوم ربطتنا المحبة بوثاق الزيجة.واليوم بعد مضي إحدى عشر سنة_-_يفصلنا الموت .فهل نلتقي بعد؟
"إذا صح ما يقولونه عن الحياة الآتية فسوف تجدني بانتظارك على عتبة العالم الثاني,فاتحة ذراعي لاستقبالك,ومهيءة شفتي لقبلتك,وسوف تسمع سؤالي مرة أخرى:كيف حالك يا قرقور؟..."آه يا عزيز ,لو كنت الآن بجانبي!! الآن,وأنا واقفة بحضرة الموت,أحب أن أشكر لك كل قبلة قبلتني إياها بحب وشوق.أود أن أشكر لك كل كلمة وكل حركة, وكل لحظة حببت بها الحياة إليّ. مرت بي دقائق كانت من هدايا حبك,فأشكرك عليها يا عزيز!حلمت أحلاماً جعلتني أظن نفسي في السماء لا على الأرض,وتلك الأحلام كانت من نسمات حبك,فأشكرك عليها يا عزيز! ذقت طعم سعادة الفردوس.وتلك السعادة كانت من ثمرات حبك ,فأشكرك عليها يا عزيز!..
"أما أنا فماذا قدمت لك عوضاً؟؟قدمت لك جسما نقياً,جميلاً,طاهراً,وبالإجمال كرست لك ذاتي.وما ذنبي اذا لم توازِ تقدمتي عطاياك؟أنت لم ترض بي وحدي,لم تكتف بجميلة مجردة,وأنا قبلت بك وحدك دون بقية العالم.أنت كنت لي الكل بالكل.سعادتي تمت بك وبحبك. ولكن سعادتك لم تتم بحبي. أنت لم تظهر لي ذاتك في أول الأمر ,ولكن مع الأيام كشفت لي ما كان مستوراً عن عيني.كنت أظنك سعيداً بحبي كما كنت سعيدة إلى النهاية بحبك فقط!!! وما أمر تلك الساعة التي أدركت فيها خطأي!! أتذكر حديثنا عن العريس ؟أتذكر لما سألتك إذا كانت سعادتك غير تامة بلا أولاد؟أتذكر جوابك لي؟؟ حاولت مع ذلك أن أخدع نفسي .حاولت أن أقنع ذاتي أن محبتك للأولاد كمحبة بقية الرجال,وأن حبك إيـأي سيبقى كما كان سواء رزقنا الله عريساً أم لم يرزقنا.وما أمر الحقيقة التي كشفتها لي حوادث السنوات التي تلت ذلك؟!! لما تأكدت أن لا رجاء مني لألد لك أولاداً نبذتني من حياتك كالنواة.ولم تكتف بذلك بل أبغضتني,وكرهتني كأنني سم أفعى.بدأت بالتدخين ثم بالسكر ثم بشتمي وضربي.أتذكر لما ضربتني لأني رفضت أن أذهب إلى الكنيسة لابسة كل حلي؟؟آه! ما ألذ تلك الضربات من يدك! قل لي بحقكأما كانت تدخل الشفقة قلبك عندما كنت تنظر إلي وأنا أسير في البيت كشبح أصم أخرس؟؟أراقب كيف تهبط بناية سعادتي أمام عيني,وأرى نفسي غريبة كيفما توجهت؟أنسيت أني لم أزل من لحم ودم مثلك,وأني لم أفقد رقة شعور النساء؟ هل قسوت إلى حد أن لم يبق في قلبك مكان للرقة على الإطلاق؟آه كم مرة وددت في تلك الدقائق لو نظرت إلى أعماق نفسي كما كنت تنظر إلى خفاياها سابقاً بعينيك الخارقتين,ورأيت ما كان يجول فيها!!!
أنت لا تعرف آلام الجرح في القلب.أول جرح في قلبي نلته من يدك كان إدراكي أن حبك لي منذ البداية إلى النهاية لم يكن حباً لشخصي أنا,لم يكن حباً لي كإنسان مستقل بوجوده وكيانه في هذا العالم. أنت أحببتني كأم أولادك في المستقبل.أحببتني كأنثى ستترك لك ذرية قبل أن تموت ذاك عندك طبيعي.لكنه عندي أمر من الموت.لما كنت أفكر أن لا ثمن لي في عينيك بذاتي.أن لا قيمة لجسمي وروحي بين يديك إلا كآلة تبذير كنت أطلب الموت لنفسي.
أنت لا تفهم ذلك.أنت إلى الآن لا تدرك أن المرأة لها قيمة محصورة فيها ومستقلة عن أولادها.أنا وجدت فيك تتمة حياتي,لكن تتمة حياتك لم تنحصر في,بل تعدتني,وهذا ما كان يؤلمني ويجرح قلبي. أحببتك قبل الزيجة,وأحببتك بعدها ولا أزال أحبك الآن.لم أبغضك إلا دقيقة واحدة فقط.لما رفعت يدك وضربتني, مع أني أذكر ذلك الحادث الآن براحة ولذة وأشتهي لو كنت معي لتعيده. هل ظننت أني شاذة عن الطبيعة؟ هل حسبت أني وأنا امرأة ,أبغض الأولاد وإاعالة الأولاد؟؟ آه لو تدري لم ليلة حلمت أن طفلاً على ذراعي! كنت أراه كذلك في اليقظة يمتص ثديي.وأسمع دقات قلبه الصغير,وأرى يديه الصغيرتين تلعبان في الهواء.كم مرة رأيته يدرج أمامي في الدار,كم مرو سمعته يناديني"ماما"...كم مرة جلست بقرب سريره الصغير,وغنيت له لينام محدقةً إالى وجهه الملائكي.وعينيه السماويتين!! لكنك كنت أعمى عن كل ذلك كيف لا تفهم أني لو رفضت أن أضحي بسعادتي وهي حقيقة كائنة لأجل أولاد لا يزالون في رحم المستقبل.أي لأجل ما ليس كائناًلا أكون أعبر بذلك عن بغضي للأولاد؟ألا يقول المثل:عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة؟ ومع ذلك سلمت نفسي لارادتك كعبدة..حرمتني لذة الشغل في البيت خرفاً من كلام الناس,فرضيت.كرهتني لأنني لم ألد لك عريساً.فحملت نفسي فوق طاقتها من زيارة الأطباء والقديسين والأديرة.أنت لا تدري كم ذرفت من دموع في خلوتي وإبان سياحاتي.أنت لا تدري كيف كان يقطر قلبي دماً لما كنت أراك تهرب مني,وتميل نظرك عني كأني هواء أصفر!!أمك وأبوك كانا يشتهيان أن يقذفني عزرائل عنك لعلك تقدر أن تأخذ لم امرأة "ولادة" وها أنا أحذف نفسي من حياتك.فربما وجدت أحسن وأخصب مني.كنت متعلقة بوميض أمل ضعيف,كما يتعلق الغارق بقشة.حملت المضض والألم والذل والإهانة وأنا أقول:ربما...ربما عدت فولدت لك عريسا بمعجزة من السماء..كنت أظن أني إذا حصلت على ذلك أسترجع خيال حبك السابق وسعادتنا الأولى.وشدة رغبتي في إرضائك واسترجاع حبك حملتني على اقترف ذنب لو غفرته أنت لي فلا أغفره أنا لنفسي.سيفصلنا الموت عن قريب,فلماذا أخاف أن أطلعك عليه؟...."أنا أحمل الآن في أحشائي روحاً صغيرة وجسماً صغيراً هو الجنين الذي أعاد الابتسامة إلى وجهك والنور إلى عينيك لكنه ليس من لحمك ودمك......ضحيت بعزة نفسي وطهارة جسمي لأحصل عليه ارضاءً لخاطرك,لكنني ادركت الآن ما فعلته ذنب لا يغتفر.أنا لا أريد أن أشتري حبك بالخداع والزنى..لكنني لما زنيت زنيت لأجلك فقط....
هاأنا أشعر بحركات هذا الطفل التعس بين ضلوعي..لكنها ستهمد عما قريب.ستقف دقات قلبه الصغير عندما تقف دقات قلب أمه الزانية.من أبوه؟؟وهل يهمك أن تعرف ذلك,أو هل يخفف ذاك من ذنبي؟يكفيك أن تعرف أنه ليس ابنك..فربما يسرك حينئذ أنني أموت وأميته معي.
"ألا فاعلم يا عزيز أن العاقر أنت لا أنا.
وأنا مع ذلك ,مجرمة في نظرك ونظر العالم,فهل قتلي لنفسي جريمة كذلك؟؟ أولم أمت قبل الآن؟؟أم أكن ميتة كل هذه السنين التي تركتني فيها وحيدة غريبة كسيرة النفس والقلب؟ ومن هو قاتلي,ألست أنت؟الآن لا مرد لما فات.إن عزيزا الذي أحبته روحي أولاً راح ولن يرجع.فما غايتي بعد من الحياة؟..لماذا أتكلم عن كل هذه الأمور؟"بعد دقيقة تجمد هذه اليد وتضمحل الأفكار وتسكت دقات هذا القلب إلى الأبد.هالشمس تميل إلى المغيب وأنا أشتهي أن تفراقني الحياة قبل أن يفارق النور أغصان السنديانة.في السنديانة فوق رأسي جوق من عصافير الحسون..ماألذ تغريدها!ما أطيب خرير الساقية وحفيف أوراق السنديانة!!أتذكر لما كنا نأتي ونجلس هنا أول ما عرفنا الحب؟آه لو كنت بجانبي الآن لأضمك ولو مرة إلى صدري قبل أ اودع هذا العالم!هنا ولدت محبتنا وهنا أفنها معي.في يدي الآن صورتنا في ثياب الاكليل.ما كان أجملك وألطفك يا عزيز في ذاك النهار!ما أجمل شاربيك,وما أعمق سحر عينيك..وما ألذ نضارة وجهك!آه لو يعود عزيز صباي,عزيز حبي,عزيز حياتي وسعادتي!...ما كان ألذ الحياة معك يا عزيز!أشكرك أشكرك على كل قطرة من السعادة التي ارتشفتها من ينبوع حبك,وأطلب منك صفحاً عن كل إساءة صدرت مني نحوكإن كان بالقول أو بالفعل أو بالفكر..أموت واسمك بين شفتيّ....هل يمكنك أن تدفن هذه الصورة معي؟......أحب أن أنام نومتي الأخيرة مع رسم حبيبي الذي علقت به روحي من يوم أدركت معنى الحب.....لا طلب لي إليك سوى أن تصفح هفواتي...ولا وصية لي عندك سوى أمي...أمي..أمي.. حبيبتي أمي! ترى ماذا تفعلين بعد انحجاب جميلتك عنك إلى الأبـــــــد؟؟!
"إذا ذرفت على تربتي دمعة فقط....دمعة واحدة......أكون ممتنة لك حتى بعد القيامة........وداعاً يا قرقوري الحبيب! وداعــــــــاً يا قرقوري الذي لا يثمن.قرقورتك:جميــلة"
هذه هي الرسالة كما أثبتها ميخائيل نعيمة,وبعدها قال:
أخبرني صاحب من قرية عزيز الكرباج أنه رآه حديثاً في نيويورك,وسأله هل تزوج ثانيةً؟؟ فأجابه متنهداً وفي صوته غصة:"لا جميلة بعد جميـلة"