نجوى كرم و'ميتاليكا' لا يجتمعان معاً!

أنتمي إلى جيل (زمنيا وليس حسيا وفكريا) بدأ يتفتح وعيه على مشهد عسير ومشوه، اجتياح بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا وسلسلة اغتيالات في تونس وعمّان لآباء زملاء في المدرسة، قنابل صوتية تستهدف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في جبل الحسين في عمّان على بعد مئات الأمتار من شباك غرفة النوم. هذه المشهد كان في مراحل الطفولة.
في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية اتخذ المشهد بعداً أكثر قتامة وتعقيداً، اتحاد سوفييتي ينحل، مجاهدون بمباركة الـ CIA يعودون من أفغانستان، شعار 'الإسلام هو الحل' يكتسح الجدران وحتى 'تابلو' سيارة السرفيس، صدام يجتاح الكويت، باعة بكرات الأشرطة اللاصقة تزدهر تجارتهم في وسط عمّان، غرف آمنة في كل منزل لتحتمي من صاروخ يحمل رأساً كيماويا قد يضل طريقه إلى تل أبيب، فجأة أربعة زعماء أصبحوا هم 'الشرفاء' واصبح الباقي طالحين، الحجاب (الخارجي والداخلي) طوق رؤوس طالبات مدرسة سكينة بنت الحسين، تكوم المصلون في المساجد، لم يحرص هؤلاء على الصلاة الوسطى إثر خطاب الانسحاب من الكويت.
دخلت الجامعة والعرب قد دخلوا مدريد وألحقوه بأوسلو ووادي عربه، والعراق دخل في حصار الدواء وأقلام الرصاص. جامعة اليرموك، التي عرفت النضال الطلابي وتلقى ميدانها الرئيسي الشهداء، أصبح طلابها مدمني لعب الورق والإمعان بـ'أنشطة اجتماعية' عنوانها الخواء.
كان لا بد من ثقافة بديلة كملجأ من هذا المشهد المعتم والسمج، موسيقى الروك كانت الملاذ، موسيقى حملت تمرداً في مجتمعات الغرب في عقد الخمسينات من القرن الماضي، سرعان ما اتخذت كيانها الأخلاقي، وأصبحت المنصة لطرح مفاهيم ورؤى كانت صدى صوت حركات التحرر الاجتماعية والسياسية، معارضة حرب فيتنام كان أعلى ما نادت به، ماكنة الإعلام المكارثية لم تكن قاصرة على محاصرة ذاك الحراك التحرري وتسطيحه من خلال وضعه في بوتقة 'جنس ومخدرات وروك آند رول'.
كنت، كما مجموعات صغيرة متناثرة في وطننا العربي، مشدوهاً بهذه التجربة، ملتصقاً بالموسيقى ومريداً لقاماتها كفريق 'بينك فلويد' و'ليد زبلن' و'جيم موريسن' مغني وشاعر فريق 'ذه دورز' وبالطبع 'جون لينون'. بدايات الالتحام بهذه الموسيقى بإعتبارها كيانا أخلاقيا ومفاهيميا كان مرتبطاً بشكل كبير بفريق 'ميتاليكا'. مجموعة من شبان الطبقة الوسطى استطاعوا أن يحققوا اختراقاً من واقع توزيع البيتزا إلى مكانة في مشهد نمط موسيقي عرف بـ'هيفي ميتل' في عقد الثمانينات من القرن الماضي. تركيب كلاسيكي للجمل الموسيقية، سرعة الأداء وصخب مؤثرات تقطيع الصوت Distortion أعطت لموسيقاهم بعداً مغايراً، موجة غضب مفاهيمي، وازن بين إيقاع عصر وجدوا أنفسهم مغيبين ومضطربين فيه، وعبقرية فطرية دمجت أو استعارت فكراً موسيقياً كما في مقطوعة The Call of Ktulu وأغنية 'لمن تقرع الأجراس' المستوحاة من عمل همينغواي.
هذا العشق والارتباط المفاهيمي بتجربة 'ميتاليكا' دفعني إلى تقبل مراحل تحولهم في الشكل والأداء الموسيقي، وتقبل على مضض شهرتهم المبتذلة بُعيد صدور مجموعتهم الموسيقية 'الألبوم الأسود' في مطلع التسعينات من القرن الماضي. أذكر جيداً متابعتي لبث حفلهم الموسيقي مباشرة من تل ابيب عبر راديو جيش الاحتلال الذي كان بالإمكان إلتقاط موجاته من مدينة أربد، حيث أمضيت سنواتي الجامعية. كان ذلك في مطلع التسعينات، لم يرق لي وجودهم هناك، لكنني آثرت أن أجد لهم مبررات عدم متابعة المجتمع الأمريكي لحيثيات الصراع مع الكيان الصهيوني.
'ميتاليكا' ستقدم عرضاً في جزيرة ياس الظبيانية هو الأول في بلد عربي. جزيرة تحتضن منشآت سياحية تدمج بين الغرائبي وكلف التعمير المبالغة لرسم هوية إمارة أبوظبي 'الجديدة'. مقاطعتي لحفل 'ميتاليكا' نابعة من ثلاثة منطلقات.
كشفت 'ميتاليكا' عن وجه بغيض خلال سجالها القضائي العنيف مع شركة Napster في عامي 2000 و2001. الأخيرة كانت قدمت منصة لتحميل ومشاركة المحتوى الموسيقي عبر الانترنت، وهو ما آلت إليه طبيعة استخدامات الانترنت حالياً. 'ميتاليكا' كان لها موقف حازم وصفه الكثيرون من المريديين والمحللين آنذاك بالجشع.
لا أملك وثائق عن رفض 'ميتاليكا' تقديم عرض في مهرجان الروك الصحراوي السنوي الذي كانت تستضيفة دبي حتى أزمة ديونها في عام 2009، لكنني أعرف حقيقتين: القائمون على المهرجان كانوا معنيين من باب عشقهم للموسيقى والتزامهم نحو جمهور المهرجان، الذي استقطب مريدين من إيران مرورا بالسعودية ومصر وتركيا، بإدراج 'ميتاليكا' ضمن ضيوف المهرجان. ومن جهة أخرى استطاع المهرجان خلال سنواته القليلة استقطاب أعلام في موسيقى الروك، بعضهم أكثر عراقة من فريق 'ميتاليكا' كفريق 'ايرون ميدن' و'روبرت بلانت' مغني فريق 'ليد زبلن'.
مفارقة إحجام 'ميتاليكا' عن القدوم إلى دبي في أوج مهرجانها الصحراوي للروك يقودني إلى التطرق إلى مقارنة تجربة دبي في تشكيل وجهة ثقافية عالمية نضجت خلال أكثر من عقد وكان نتاجها الأبرز مهرجان دبي السينمائي الدولي، بينما إلى الجنوب من الإمارة المستدينة، خرج طور العمل الثقافي عن عقاله المؤسسي والرزين الذي تمثل بمعرض الكتاب وأنشطة المجمع الثقافي إلى إعصار من الفعاليات والأنشطة (من ضمنها مهرجان أبوظبي السينمائي) التي اتسمت بالإقحام والإسقاط وافتقار الرؤية ناهيك عن رعونة المصروفات. قراءة تجربة أبوظبي في إقحام 'صناعة الثقافة' إلى مشهدها تحتاج إلى وقفة معمقة وإسهاب لسنا في مجاله الآن.
إذا أنحاز إلى تجربة دبي واتخذ موقفاً من 'ميتاليكا' بناء على ذلك! 'ميتاليكا' قدمت حفلا موسيقيا في أيار/مايو من عام 2010 في استاد رامات جان. التجاهل التام لحملة المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والثقافية لإسرائيل لا يمكن تبريره. فنانون بحجم فريق 'ميتاليكا' عليهم واجب أخلاقي وإنساني أن يتحسسوا ما يجري حولهم في هذا الكون. فريق موسيقي تجاوزت شعبيته حانة الحي عليه أن يقف على مسؤولياته تجاه إبداعه وفنه والقيم التي يمثلها. تجاهل الضحية لا يمكن مقابلته سوى بالمقاطعة.
أخيراً، لنفرض جدلاً أنني تواق لحضور حفل موسيقي لـ'ميتاليكا' (ولطالما كنت كذلك في السابق). لن أكون معنياً بمشاركة جمهور يذهب إلى 'ميتاليكا' من باب الموضة والمفاخرة، معادلة 'ميتاليكا' وجمهور جزيرة ياس لا تروق لي، كنت أفضل مشاهدتهم مع جمهور متجانس في مزاجه الموسيقي، نجوى كرم و'ميتاليكا' لا يجتمعان.

شكرا أخي على الخبر تحياتي الك وأهلا وسهلا فيك ببيتك الثاني

شكرا على الخبر